أجرنا من أجرتي يا أم مناحي....
جمعان عبد الله مسفر الدحروجي
اتصف العرب منذ القدم بالإجارة وهي : المنعة, وعدم الاعتداء , والإغاثة, والذمة , والحفرة, وأصبحت من القيم الاجتماعية التي دأب أهل الحجاز على ممارستها قبل الإسلام, وعمقها الإسلام, وأكدها , وشذب البعض منها وأضاف إليها. وكانت دوافع الإجارة هي عمليات الثأر القبلي والقتل نتيجة الحروب التي تدفع بالأفراد والجماعات للالتجاء إلى قبائل أخرى, وحوادث القتل الفردي , أو ارتكاب حالات جرم تدعو إلى خلع الفرد من قبيلته والالتجاء إلى أخرى.
فقديمًا كانت هناك إجارة جماعية لقبيلة باهلة حين تفرقت وطلبت الإجارة من قبائل أخرى أثر الغارة التي قام بها المنتشر الباهلي على اليمن فعندما رجع ظافرًا , وجد بني جعدة قتلوا ابنًا له , وكانت باهلة في بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ثم في بني جعدة, فلما علم المنتشر بذلك وأتاه الخبر , أغار على بني سبيع , فقتل منهم ثلاثة رجال , وعلى اثر ذلك تصدعت باهلة, فلحقت فرقة منهم يقال لها بنو وائل بعقال بني خويلد العقيلي , ولحقت فرقة أخرى يقال لهم بنو قتيبة بيزيد بن عمر بن الصعق الكلابي فأجارهم يزيد وأجار عقال وائلًا.
وكانت هناك إجارة مطلقة التي لا تحدد بزمان ولا مكان ولا موضوع معين, ولا يقوى على هذا النوع من الجوار غير سادات العرب , مثل عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب, فيروى أن الشاعر الأعشى أتى علقمة بن علاثة بن عوف بن جعفر بن كلاب فسأله أن يجيره, فقال له علقمة من يجيروك هم بني الأحوص , قال الأعشى : لا يقنعني, قال: فعلى بني كلاب , قال: لا يقنعني, قال فليس عندي أكثر, وجاء الأعشى إلى عامر بن الطفيل وطلب الإجارة منه , فأجابه: اتليتك (اجرتك) على الجن والإنس, ومن الموت, قال الأعشى : نعم, وكيف تجيرني من الموت, قال : إن مت وأنت في جواري , بعثت إلى أهلك الدية , قال : الآن علمت إنك قد أجرتني , فامتدح عامرا .
كما كانت الإجارة المشروطة مما عرف عن عرب الحجاز , حيث يشترط المجير على المجار أو يتعهد ألا يسيء إلى الجوار, أو سمعه المجير, وألا يكن في حل من جواره, فيذكر أن أبا سفيان بن حرب إذا نزل به جار قال : يا هذا إنك أخترتني جارًا أو اخترت داري دارًا , فجناية يدك على دونك, وإن جنت عليك يد فاحتكم حكم الصبي على أهله.
وفي بداية الرسالة , نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم, لم يستطع الجهر بدعوته إلا بفضل إجارة بني هاشم لاسيما عمه أبو طالب له وتتجلى منعة أبو طالب مخاطبًا الرسول : اذهب يا ابن أخي فقل ما احببت فو الله لا اسلمك لشيء أبدا.
وبعد أن اشتد ساعد المسلمين وكثر عددهم وتوجهوا لفتح مكة بقيادة النبي صلى الله عليه وسلم , تجلت صفة التسامح التي عليها الرسول صلى الله عليه وسلم , حتى مع من ناصبه اشد العداء فيقبل جوار أبي سفيان بعد أن أجار العباس بن عبد المطلب . وكذلك سامح بن عبدالله بن أبي سرح الذي كان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم, فأزله الشيطان فلحق بالكفار, فأمر النبي أن يقتل يوم فتح مكة, فاستجار له أبو بكر وعمر وعثمان فأجاره النبي .
وفي نفس الموقف في فتح مكة, فر بعض المشركين إلى بيت أم هانئ بنت أبي طالب –رضي الله عنها, ولحقهم أخوها علي ليقتلهم, وسألوها أن تجيرهم ففعلت, وذهبت إلى النبي لتخبره بما حدث بينها وبين علي فقال الرسول صلى الله عليه وسلم :" مرحبًا بأم هانئ .. قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ"
وفي الواقع كثيرة هي صور الإجارة والاستجارة في التاريخ الإسلامي وإن كنا ممرنا على بعض منها. لنعطي نماذج على انتشار الاستجارة في بلاد الحجاز قديما وحديثًا .
غير أنه ينبغي الإقرار بأنه حدث هذه الأيام بهذه البلاد المباركة ما هو أكثر من ذلك !
فإن كنا نملك عشرات الأمثلة على من طلب الاستجارة وتمت له , فربما نادرًا ما نملك – إن وجد- مثالًا لما فعلته أم مناحي ...
أم مناحي هي : نورة بنت محمد ال العسيله الدحروجية الواهبيةالشهرانية شيخة المجيرين .
قتل محمد بن شاهر العمودي الواهبي الشهراني ابنها ودخل عليها قاتل ابنها بزوجته وعياله وأمه وقال انا ذبحت ولدك يامه نوره وأنا في وجهك ودم ابنها على ثيابه ... قالت والله إنك في وجهي ووجه الله .
فجاء أولادها حاملين السلاح يريدون أخذ ثأرهم من قاتل أخيهم ... غير أن شيخة المجيرين أم مناحي ... النقية البهية ... أغلقت على القاتل المجلس وقالت :" والله يمن لمسه أني لارمي نفسي في البير واعور بكم قبايل الجنوب "
إلى أن جاءت الشرطة وقبضت عليه .
لم تنتهي القصة بعد فما تم فيها هو الأكثر إنسانية والأكثر دينًا وعفوًا ورحمة ...
فبعد مرور سنة عفت الأم هي وأولادها عن قاتل ابنها لليلة العيد لوجه الله بدون أية وساطة..
وذهبت هي وأولادها ودخلوا على أهل القاتل وقالوا من العايدين وعفونا لوجه الله ما نريد قليل ولا كثير نرجي ما عند الله .
فها هي الأم تعلن عن أثر أخلاقي قديم عظيم الدلالة , وهو اسقاط حق ثابت مع القدرة على أخذه , فالعفو حقيقة وأصلًا هو المقترن بالمقدرة , وها هي شيخة المجيرين تقدم نموذج فريد : أجارته .. ثم عفت عنه . وما فعلته ذات أثر كبير في المجتمع الواحد , فقد جمعت بين الأهل , وآلفت بين القلوب, ,مسحت أوتار النفوس , وأزالت الأحقاد والسخائموالضغائن من الصدور...
مراجع للاستزادة عن العفو عند عرب الحجاز قديمًا :